فصل: سورة الزلزلة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (نسخة منقحة)



.سورة الزلزلة:

.تفسير الآيات (1- 8):

{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)}
لما ختم تلك بجزاء الصالح والطالح في دار البقاء على ما أسلفوه في مواطن الفناء، ذكر في هذه أول مبادئ تلك الدار وأوائل غاياتها، وذكر في القارعة ثواني مبادئها وآخر غاياتها، وأبلغ في التحذير بالإخبار بإظهار ما يكون عليه الجزاء، فقال معبراً بأداة التحقق لأن الأمر حتم لابد من كونه: {إذا}.
ولما كان المخوف الزلزلة ولو لم يعلم فاعلها، وكان البناء للمفعول يدل على سهولة الفعل ويسره جداً، بنى للمفعول قوله: {زلزلت الأرض} أي حركت واضطربت زلزلة البعث بعد النفخة الثانية بحيث يعمها ذلك لا كما كان يتفق قبل ذلك من زلزلة بعضها دون بعض وعلى وجه دون ذلك، وعظم هذا الزلزال وهوّله بإبهامه لتذهب النفس فيه كل مذهب، فقال كاسراً الزاء لأنه مصدر، ولو فتحها لكان اسماً للحركة، قال البيضاوي: وليس إلا في المضاعف. {زلزالها} أي تحركها واضطرابها الذي يحق لها في مناسبته لعظمة جرم الأرض وعظمة ذلك اليوم، ولو شرح بما يليق به لطال الشرح، وذلك كما تقول: أكرم التقي إكرامة وأهن الفاسق الشقي إهانة، أي على حسب ما يليق به.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: وردت عقب سورة البرية ليبين بها حصول جزاء الفريقين ومآل الصنفين المذكورين في قوله: {إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين} إلى قوله: {أولئك شر البرية} وقوله: {إن الذين آمنوا} إلى آخر السورة. ولما كان حاصل ذلك افتراقهم على صنفين ولم يقع تعريف بتباين أحوالهم، أعقب ذلك بمآل الصنفين واستيفاء جزاء الفريقين المجمل ذكرهم فقال تعالى: {يومئذ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم} إلى آخر السورة- انتهى.
ولما كان الاضطراب العظيم يكشف عن الخفي في المضطرب قال: {وأخرجت} وأظهر ولم يضمر تحقيقاً للعموم فقال: {الأرض} أي كلها {أثقالها} أي مما هو مدفون فيها كالأموات والكنوز التي كان أمرها ثقيلاً على الناس، وهو جمع ثقل بالكسر، وذلك حين يكون البعث والقيام متأثراً ذلك الإخراج عن ذلك الزلزال، كما يتأثر عن زلزال البساط بالنفض إخراج ما في بطنه وطيه وغضونه من وسخ وتراب وغيره، وما كان على ظهرها فهو ثقل عليها لأنها يعطيها الله قوة إخراج ذلك كله كما كان يعطيها قوة أن تخرج النبت الصغير اللطيف الطري الذي هو أنعم من الحرير فيشق الأرض الصلبة التي تكل عنها المعاول والحديد، ويشق النواة مع ما لها من الصلابة التي تستعصي بها على الحديد فينفلق نصفين وينبت منها ما يريده سبحانه وتعالى، ويفلق قشر الجوز واللوز ونوى الخوخ وغيره مما هو في غاية الصلابة كما نشاهده، ويخرج منه الشجر بشق الأرض على ضعفه ولينه وصلابتها وبكونه على ظهرها حتى يصير أغلظ شيء وأشده، وكذا الحب سواء، فالذي قدر على ذلك هو سبحانه وتعالى قادر على تكوين الموتى في بطن الأرض وإعادتهم على ما كانوا عليه كما يكون الجنين في البطن ويشق جميع منافذه على التحذير من السمع والبصر والفم وغير ذلك من غير أن يدخل إلى هناك بيكار ولا منشار، ثم يخرج من البطن، فكذا إخراج الموتى من غير فرق، كل عليه هين- سبحانه ما أعظم شأنه وأعز سلطانه.
ولما كان الإنسان إذا رأى هذا عجب له ولم يدرك سببه لأنه أمر عظيم فظيع يبهر عقله ويضيق عنه ذرعه، عبر عنه بقوله: {وقال الإنسان} أي هذا النوع الصادق بالقليل والكثير لما له من النسيان لما تأكد عنده من أمر البعث بما له من الأنس بنفسه والنظر في عطفه، على سبيل التعجب والدهش أو الحيرة، ويجوز أن يكون القائل الكافر كما يقول: {من بعثنا من مرقدنا} [يس: 52] فيقول له المؤمن: {هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون} [يس: 52] {ما لها} أي أيّ شيء للأرض في هذا الأمر الذي لم يعهد مثله.
ولما طال الكلام وأريد التهويل، أبدل من {إذا} قوله معرفاً للإنسان ما سأل عنه: {يومئذ} أي إذ كان ما ذكر من الزلزال وما لزم عنه ونصبه وكذا ما أبدل منه بقوله: {تحدث} أي الأرض بلسان الحال بإخراج ما في بطنها من الموتى والكنوز وغيرها على وجه يعلم الإنسان به لم زلزلت ولم أخرجت، وأن الإنذار بذلك كان حقاً، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: تحدث بلسان المقال. {أخبارها} أي التي زلزلت وأخرجت ما أخرجت لأجلها، وكل شيء عمل عليها شهادة منها على العاملين فتقول: عمل فلان كذا وكذا- تعدد حتى يود المجرم أنه يساق إلى النار لينقطع عنه تعداد ذلك الذي يلزم منه العار، وتشهد للمؤمن بما عمل حتى يسره ذلك، فيشهد للمؤذن كل ما امتد إليه صوته من رطب ويابس.
ولما كان من المقرر أنه لا يكون شيء إلا بإذنه تعالى، وكان قد بنى الأفعال لما لم يسم فاعله، فكان الجاهل ربما خفي عليه فاعل ذلك قال: {بأن} أي تحدث بسبب أن {ربك} أي المحسن إليك بإحقاق الحق وإزهاق الباطل لإعلاء شأنك {أوحى} وعدل عن حرف النهاية إيذاناً بالإسراع في الإيحاد فقال: {لها} أي بالإذن في التحديث المذكور بالحال أو المقال.
ولما أخبر تعالى بإخراج الأثقال التي منها الأموات، اشتد التشوف إلى هيئة ذلك الإخراج وما يتأثر عنه، فقال مكرراً ذكر اليوم زيادة في التهويل: {يومئذ} أي إذ كان ما تقدم وهو حين يقوم الناس من القبور {يصدر} أي يرجع رجوعاً هو في غاية السرعة والاهتداء إلى الموضع الذي ينادون منه لا يغلط أحد منهم فيه ولا يضل عنه {الناس} من قبورهم إلى ربهم الذي كان لهم بالمرصاد ليفصل بينهم {أشتاتاً} أي متفرقين بحسب مراتبهم في الذوات والأحوال من مؤمن وكافر، وآمن وخائف، ومطيع وعاص.
ولما ذكر ذلك، أتبعه علته فقال بانياً للمفعول على طريقة كلام القادرين: {ليروا} أي يرى الله المحسن منهم والمسيء بواسطة من يشاء من جنوده أو بغير واسطة حين يكلم سبحانه وتعالى كل أحد من غير ترجمان ولا واسطة كما أخبر بذلك رسوله صلى الله عليه وسلم {أعمالهم} فيعلموا جزاءها أو صادرين عن الموقف كل إلى داره ليرى جزاء عمله، ثم سبب عن ذلك قوله مفصلاً الجملة التي قبله: {فمن يعمل} من محسن أو مسيء مسلم أو كافر {مثقال} أي مقدار وزن {ذرة خيراً} أي من جهة الخير {يره} أي حاضراً لا يغيب عنه شيء منه لأن المحاسب له الإحاطة علماً وقدرة، فالكافر يوقف على أنه جوزي به في الدنيا أو أنه أحبط لبنائه على غير أساس الإيمان، فهو صورة بلا معنى ليشتد ندمه ويقوى حزنه وأسفه، والمؤمن يراه ليشتد سروره به.
ولما ذكر الخير، أتبعه ضده فقال: {ومن يعمل} أي كائناً من كان {مثقال ذرة شراً} أي من جهة الشر {يره} فما فوقه، فالمؤمن يراه ويعلم أنه قد غفر له ليشتد فرحه، والكافر يراه فيشتد حزنه وترحه، والذرة النملة الصغيرة أو الهباءة التي ترى طائرة في الشعاع الداخل من الكوة، وقد رجع آخرها على أولها بتحديث الأخبار وإظهار الأسرار، وقد ورد في حديث الأعرابي أن هذه السورة جامعة لهذه الآية الأخيرة، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إنها أحكم آية في القرآن، وكان رسول الله عليه صلى الله عليه وسلم يسميها الفاذة الجامعة، ومن فقه ذلك لم يحقر ذنباً وإن دق لأنه يجتمع إلى أمثاله فيصير كبيراً كما قال صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «إياك ومحقرات الذنوب، فإن لها من الله طالباً» وروي كما ذكرته في كتابي «مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور» في حديث «إنها تعدل نصف القرآن» وفي حديث آخر أنها تعدل ربع القرآن، ولا تعارض، فالأول نظر إليها من جهة أن الأحكام تنقسم إلى أحكام الدنيا وأحكام الآخرة، وهذه السورة اشتملت على أحكام الآخرة إجمالاً، وزادت على القارعة بإخراج الأثقال وأن كل أحد يرى كل ما عمل، والثاني نظر إليه باعتبار ما تضمنه الحديث الذي رواه الترمذي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله بعثني بالحق، ويؤمن بالموت، ويؤمن بالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر» فاقتضى هذا الحديث أن الإيمان بالبعث الذي قررته هذه السورة ربع الإيمان الكامل الذي دل عليه القرآن، وأيضاً فأمر الدين أربعة أجزاء: أمر المعبود، وأمر العبيد، وأمر العبادة، وأمر الجزاء، فهذه السورة تكفلت بأمر الجزاء، وسورة الكافرون ربع لأنها في أمر العبادة على وجه الخصوص والخفاء وإن كانت على وجه التمام والوفاء، وسورة النصر ربع لأنها لأمر العبادة على وجه العموم والجلاء والظهور والعلاء- والله الهادي للصواب وإليه المآب.

.سورة العاديات:

.تفسير الآيات (1- 11):

{وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)}
لما ختم الزلزلة بالجزاء لأعمال الشر يوم الفصل، افتتح هذه ببيان ما يجر إلى تلك الأعمال من الطبع، وما ينجر إليه ذلك الطبع مما يتخيله من النفتع، موبخاً من لا يستعد لذلك اليوم بالاحتراز التام من تلك الأعمال، معنفاً من أثر دنياه على أخراه، مقسماً بما لا يكون إلا عند أهل النعم الكبار الموجبة للشكر، فمن غلب عليه الروح شكر، ومن غلب عليه الطبع- وهم الأكثر- كفر فقال: {والعاديات} أي الدواب التي من شأنها أن تجري بغاية السرعة، وهي الخيل التي ظهورها عز وبطونها كنز، وهي لرجل وزر ولرجل أجر، فمن فاخر بها ونادى بها أهل الإسلام وأبطره عزها حتى قطع الطريق وأخاف الرفيق كانت له شراً، ومن جعلها في سبيل الله كانت له أجراً، ومن حمل عليها ولم ينس حق الله في رقابها وظهورها وكانت له ستراً، وإنما أقسم بها ليتأمل ما فيها من الأسرار الكبار التي باينت به أمثالها من الدواب كالثور مثلاً والحمار ليعلم أن الذي خصها بذلك فاعل مختار واحد قهار، فالقسم في الحقيقة به سبحانه.
ولما كانت دالة على الضابحات بالالتزام، قال ناصباً به أو ب تضبح مقدراً: {ضبحاً} والضبح صوت جهير من أفواهها عند العدو الشديد، ليس بصهيل ولا حمحمة ولا رغاء وهو النفس، وليس شيء من الدواب يضبح غير الفرس والكلب والثعلب، وأصله للثعلب واستيعر للخيل، وحكاه ابن عباس رضي الله عنهما فقال: أح أح، أو الضبح عدو دون التقريب.
ولما ذكر عدوها، أتبعه ما ينشأ عنه، فقال عاطفاً بأداة التعقيب لأن العدو بحيث يتسبب عنه ويتعقبه الإيراء: {فالموريات} أي المخرجات للنار بما يصطك من نعلها بالأحجار، لاسيما عند سلوك الأوعار.
ولما كان الإيراء أثر القدح قال: {قدحاً} أي تقدح ضرباً بعنف كضرب الزند ليوري النار، ونسب الإيراء إليها لإيجادها صورته وإن لم يكن لها قصد إليه.
ولما ذكر العدو وما يتأثر عنه، ذكر نتيجته وغايته فقال: {فالمغيرات} أي بإغارة أهلها عليها على العدو والإغارة والركض الشديد لإرادة القتل والنهب. ولما كانت الإغارة الكائن عنها الثبور والويل أروع ما تكون في أعقاب الليل قال: {صبحاً} أي ذات دخول في الصباح.
ولما كان الأعداء حال الإغارة يكون مختلفاً تارة يميناً وتارة شمالاً وتارة أماماً وتارة وراء بحسب الكر والفر في المصاولة والمحاولة تارة أثر الهارب، وأخرى في مصاولة المقبل المحارب، فينشأ عنها الغبار الكثير لإثارة الهواء له واصطدام بعضه ببعض لتعاكسه بقوة الدفع من قوائمها وما تحركه منه، وكان المقسم به منظوراً فيه إلى ذاته ونتيجة القسم منظوراً فيها إلى الفعل بادئ بدء مع قطع النظر بالأصالة عن الذات، عطف على اسم الفاعل بعد حله إلى أن وصلتها فقال: {فأثرن به} أي بفعل الإغارة ومكانها وزمانها من شدة العدو {نقعاً} أي غباراً مع الاعناق والصياح والزجر بالعنق حتى صار ذلك الغبار منحبكاً ومنعقداً عليها.
ولما كان المغير يتوسط الجمع عند اختلال حالهم فيفرق شملهم لأنهم متى افترقوا حصل فيهم الخلل، ومتى اختلفوا تخللهم العدو ففرق شملهم قال: {فوسطن به} أي بذلك النقع أو الفعل والوقت والموضع {جمعاً} أي وهو المقصود بالإغارة، فدخلت في وسط ذلك الجمع لشجاعتها وقوتها وطواعيتها وشجاعة فرسانها.
ولما أقسم بالخيل التي هي أشرف الحيوان كما أن الإنسان المقسم لأجله أشرف ما اتصف منه بالبيان، وتجري به أفكاره كخيل الرهان، وتقدح المعاني تارة مقترنة بأشرف اللمعان، وأخرى بأخس ما يقع به الاقتران، من الزور والبهتان، والإلحاد والطغيان، وتغير منه ثواقب الأذهان، تارة على شبه الخصوم بالبرهان، وأخرى بما يغير به من الشبه الملتبسة في وجوه المعاني الحسان، وينثر تارة المعاني الصحيحة على أهل الطغيان، من ذوي البدع والكفران، وأخرى الفاسدة على حزب الملك الديان، وتتوسط تارة جمع أولي الطغيان، وأخرى جمع أولي الإيمان، وكانت الإغارة في الغالب لأجل قهر المغار عليهم على أموالهم عدواناً إن كان ذلك في غير الجهاد، وإن كانت في الجهاد فقل من يخلص في ذلك الحال، فيكون عمله ليس إلا لله كما أشار إليه الحديث القدسي: «إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه» قال مجيباً للقسم بذكر المقسم عليه حاكماً على النوع باعتبار عد المخلص لقلته عدماً، مؤكداً لما لهم من تكذيب ذلك فإن كل أحد يتبرأ من مثل هذا الحال: {إن الإنسان} أي هذا النوع بما له من الأنس بنفسه والنسيان لما ينفعه {لربه} أي المحسن إليه بإبداعه ثم إبقائه وتدبيره وتربيته {لكنود} أي كفور نكد لسوء المعاملة حيث يقدم بما أحسن به الله إليه من الصافنات الجياد وبما آتاه من قوة الجنان والأركان على ما نهاه عنه، ومصدره الكنود بالضم وهو كفران النعمة، فالمراد هنا- بالتعبير عنه بهذه الصيغة التي هي للمبالغة- من يزدري القليل ولا يشكر الكثير، وينسى كثير النعمة بقليل المحنة، ويلوم ربه في أيسر نقمة، وقال الفضيل بن عياض: هو من أنسته الخصلة الواحدة من الإساءة الخصال الكثيرة من الإحسان، والشكور ضده.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: أقسم سبحانه على حال الإنسان بما هو فقال: {إن الإنسان لربه لكنود} أي لكفور، يبخل بما لديه من المال كأنه لا يجازي ولا يحاسب على قليل ذلك وكثيره من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وكأنه ما سمع بقوله تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} {وإنه لحب الخير} أي المال {لشديد} لبخيل، {وإنه على ذلك لشهيد} فإن الله على ذلك لمطلع فلا نظر في أمره وعاقبة مآله {إذا بعثر ما في القبور وحصل ما في الصدور} أي ميز ما فيها من الخير والشر ليقع الجزاء عليه {إن ربهم بهم يومئذ لخبير} لا يخفى عليه شيء من أمرهم {فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} انتهى.
ولما كان إقدام الإنسان على الظلم عجباً، فإذا كان يشهد على نفسه بالظلم كان أعجب، قال مؤكداً لما لأكثر الخلق قبل البعث والمحاققة من إنكار كفرانه: {وإنه} أي الإنسان {على ذلك} أي الكنود العظيم حيث أقدم على مخالفة الملك الأعظم المحسن مع الكفر لإحسانه {لشهيد} لأنه مقر إذا حوقق بأن جميع ما هو فيه من إحسان ربه وبأن ربه نهاه عن المخالفة، أو أنه لا أمر عنده منه بما فعل، وأنه لا ينبغي لعاقل أن يتحرك بحركة يمكن أن يكرهها الملك الذي هو في خدمته ولا شيء له إلا منه بغير إذنه، وأنه إن تحرك بغير ذلك كان كافراً لإحسانه مستحقاً لعقابه، لا يقدر على إنكار شيء منه.
ولما كان من العجائب أن يكفر أحد إحسان المنعم، وهو شاهد على نفسه، ذكر الحامل له على ذلك حتى هان عليه فقال: {وإنه} أي الإنسان من حيث هو مع شهادته على نفسه بالكفر الذي يقتضي سلب النعم {لحب} أي لأجل حب {الخير} أي المال الذي لا يعد غيره لجهله خيراً {لشديد} أي بخيل بالمال ضابط له ممسك عليه، أو بليغ القوة في حبه لأن منفعته في الدنيا وهو متقيد بالعاجل الحاضر المحسوس مع علمه بأن أقل ما فيه أنه يشغله عن حسن الخدمة لربه وهو معرض عن الدين حيث كانت منفعته آجلة غائبة مع علمه بأن المعرّف بما يرضى من خدمة ربه الحاث عليها الداعي إليها فهو لحب عبادة الله ضعيف متقاعس، وكان حبه الخير يقتضي عنه الشكر الذي يتقاضى الزيادة، ولا يتخيل أن شديداً عامل في الحب لأن ما بعد اللام لا يعمل فيها قبلها، وإنما ذلك المتقدم دليل على المعمول المحذوف.
ولما كان المال فانياً لا ينبغي لعاقل أن يعلق أمله به فضلاً عن أن يؤثرة على الباقي، نبهه على ذلك بتهديد بليغ، فقال مسبباً عن ذلك معجباً، موقفاً له على ما يؤول إليه أمره: {أفلا يعلم} أي هذا الإنسان الذي أنساه أنسه بنفسه.
ولما كان الحب أمراً قلبياً، لا يطلع عليه إلا عالم الغيب، وكان البعث من عالم الغيب، وكان أمراً لابد منه، وكان المخوف مطلق كونه، لم يحتج إلى تعيين الفاعل، فبنى للمفعول قوله مهدداً مؤذناً بأنه شديد القدرة على إثارة الخفايا، معلقاً بما يقدره ما يؤول إليه أمره من أن الله يحاسبه ويجازيه على أعماله، وأنه لا ينفعه مال ولا غيره، ولا ينجيه إلا ما كان من أعماله موافقاً لأمر ربه مبنياً على أساس الإيمان واقعاً بالإخلاص: {إذا بعثر} أي أثير بغاية السهولة وأخرج وفرق ونظر وفتش بغاية السهولة.
ولما كان الميت قبل البعث جماداً، عبر عنه بأداة ما لا يعقل فقال: {ما في القبور} أي أخرج ما فيها من الموتى الذين تنكر العرب بعثهم فنشروا للحساب، أو من عظامهم ولحومهم وأعصابهم وجلودهم وجميع أجسامهم، وقلب بعضه على بعض حتى أعيد كل شيء منه على ما كان عليه، ثم أعيدت إليه الروح، فكان كل أحد على ما مات عليه.
ولما كان المخوف إنما هو ما يتأثر عن البعث من الجزاء على الأعمال الفاسدة قال: {وحصل} أي أخرج وميز وجمع فعرف أنه معلوم كله بغاية السهولة كما أشار البناء للمفعول {ما في الصدور} أي من خير أو شر مما يظن مضمره أنه لا يعلمه أحد أصلاً، وظهر مكتوباً في صحائف الأعمال، وهذا يدل على أن النيات يحاسب بها كما يحاسب على ما يظهر من آثارها.
ولما كان علم ما في الصدور أمراً باهراً للعقل، قال جامعاً نظراً إلى المعنى لما عبر عنه بالإفراد بالنظر إلى اللفظ، لأن العلم بالكل يلازمه العلم بالبعض بخلاف العكس مؤكداً إشارة إلى أنه مما لا يكاد يصدق، معللاً للجملة المحذوفة الدالة على الحساب: {إن ربهم} أي المحسن إليهم بخلقهم وزرقهم وتربيتهم وجعلهم أقوياء سويين {بهم} قدم هذا الجار والمجرور لا للاختصاص، بل للاشارة إلى نهاية الخبر. ولما كانت الخبرة للإحاطة بالشيء ظاهراً وباطناً، وكان يلزم من الخبرة بالشيء بعد كونه بمدد طوال الخبرة به حال كونه من باب الأولى قال: {يومئذ} أي إذ كانت هذه الأمور وهو يوم القيامة {لخبير} أي محيط بهم من جميع الجهات عالم غاية العلم ببواطن أمورهم، فكيف بظواهرها جواهر وأعراضاً، أقوالاً وأفعالاً، خفية كانت أو ظاهرة، سراً كانت أو علانية، خيراً كانت أو شراً، ومن المعلوم أن فيها الظلم وغيره، ومنهم المحسن وغيره، فلأجل علمه سبحانه بذلك غاية العلم يحاسبهم لئلا يقع ما ينافي الحكمة وهو أن تستوي الحسنة والسيئة، فالقصد بالقيد وتقديم الظرف الإبلاغ في التعريف بأنه سبحانه وتعالى محيط العلم بذلك كما إذا قيل لك: تعرف فلاناً؟ فقلت: ولا أعرف إلا هو، فإن قصدك بذلك أن معرفتك به في غاية الإتقان، لا نفي معرفة غيره، وفيه إشعار بأن كل أحد يعرف غاية المعرفة في ذلك اليوم أنه سبحانه وتعالى عالم بأحواله لا ذهول له عن شيء من ذلك كما يقع في هذه الدار من أن الإنسان يعمل أشياء كثيرة وهو غافل عن أن ربه سبحانه مطلع عليه فيها، ولو نبه لعلم، فلإحاطته سبحانه وتعالى بجميع أحوالهم كان عالماً بأن الإنسان لربه لكنود، وقد رجع آخرها إلى أولها، وتكفل مفصلها بشرح مجملها- والله الهادي للصواب.